عصافير من نار
.*.*.*.*.*.*.*.*.
كان
"خليل " الذي تجاوز منتصف العقد الثاني من العمر ينتمي للحركة الوطنية ،
فكان من المشاركين بفعالية عندما اشتد أوار الانتفاضة في عامها الأول ،
فتراه دائما في الطليعة ، مع أنه كان بالأمس تصطك أسنانه ، وتهتز ركبه لا
تقوى على حمله ، ويرتجف جسده ، ويزوغ بصرة عندما يردد أحدهم كلمة الاحتلال
على مسمعه ، ففي تلك اللحظة تقفز إلى ذاكرته أشكال التعذيب وصوره التي
مورست عليه عندما تم اعتقاله بتهمة التستر على شخص عرض عليه الانتماء
لخلية للعمل على قلع جذور الاحتلال فرفض حينها ؛ لأنه يرغب التفرغ لدراسته
لتأدية امتحان الثانوية العامة الذي قام بتأديته في السجن .
انتشرت روح التحرر من الاحتلال في نفوس الشعب الفلسطيني انتشارا سريعا ،
لذلك أصبح لا مناص للمرء في تلك الفترة إلا المشاركة في فعاليات الانتفاضة
بشكل أو بآخر ، فقد استقطبت في تيارها كل فئات الشعب ، فمن لم يشارك فعليا
بها فقد تعاطف معها ، ولم يعارضها سوى حفنة من المنتفعين الذين يجرون خلف
مصالحهم الباهتة ، باعوا أنفسهم وأهليهم وضمائرهم للعدو ، ترنحت ركبهم
وخارت قواهم ، وتدلت ألسنتهم لتلحس الفتات مقابل سفك دم أخ أو ابن أو جار .
كان " خليل " يتصدى بشراسة مع الجموع الحاشدة لدوريات الاحتلال يرشقها
بالحجارة ، يريد أن يفرغ جزءا من شحنات الحقد التي ملأت قلبه ، والألم
الذي ألم به في السجن ، وآثار السياط التي مازالت خطوطها بادية للعيان
كمشروع خارطة طفل بخطوط متقاطعة . وبقوة وصلابة بدأ ينسب الشباب للانضمام
إلى الحركة ، ويوزع المنشورات التي تصدرها القيادة الموحدة ، ويخرج ليلا
في حيه في البلدة القديمة مع مجموعة من الملثمين ؛ ليقرأ بيان القيادة
الموحدة ، وفيه يعلن عن حداد ، أو إضراب ، ويطلب من أصحاب المحلات
التجارية إغلاق محلاتهم ، بصوته الجهوري الرجولي من خلال مكبر الصوت الذي
يحمله بيده اليمنى ويحمل باليد اليسرى المنشور أو الورقة التي يقرأ منها ،
ويقوم أحد الملثمين المرافقين له بحمله ؛ ليخفف عنه عندما تكل يده لطول
البيان الذي يقرأه .
تميز " خليل " بالجرأة والحس الوطني ، وحسن التدبير ورزانة التفكير بين
أقرانه ورفاق دربه ؛ أعجب به الكثيرون من أفراد المجتمع ، وأضحى القدوة
الحسنة للشباب والشابات ، ولم يقتصر هذا الإعجاب على سكان حيه ، فلمع اسمه
في الأحياء الأخرى ، فتراه دائما يتصدر المسيرات الشعبية ، ويوزع الأدوار
على الشباب في تلك المسيرات ، ويحضر ما يلزمها من كتابات ، وأعلام
فلسطينية . وفي إحدى هذه المسيرات اصطدم المشاركون فيها مع جنود الاحتلال ،
ولفت انتباه " خليل " فتاة تشارك بجرأة في التصدي للجنود ، تتصدر مجموعة
من الفتيات ترشقهم بالحجارة غير آبهة بهم ، وكثيرا ما صاح بها يحذرها ، وفي
إحدى اللحظات اضطرته إلى الإمساك بها ، وإجبارها على التراجع ؛ فقد خشي
أن تصاب بعيار ناري أو مطاطي ، أو أن يلقى القبض عليها .
صدرت عنها صيحة ألم ، اصيبت " ندى " بعيار ناري ، فاندفع " خليل " مع
مجموعة من الشباب نحوها ليقوموا بإخلائها من مكان المواجهة ، يطلبون سيارة
الإسعاف فهم في مكان تتمكن السيارة من الوصول إليه لا يبتعدون كثيرا عن
أزقة البلدة القديمة ، ولكن قلة عدد سيارات الأسعاف ، واندلاع المواجهات
في جميع أرجاء المدينة والمخيمات التي انتشرت كانتشار النار في عصف مأكول ،
وكثرة الإصابات أدى إلى نقلها سريعا إلى مستشفى المدينة في سيارة مدنية
خاصة .
تم إدخال " ندى " التي يرافقها " خليل " إلى غرفة الطوارئ في المستشفى ،
وقدمت الإسعافات الضرورية لها ، ثم نزلت في إحدى غرف المستشفى ، وقامت
إدارة المستشفى بتوثيق المعلومات اللازمة بالإصابة بعد أن تبين أن الرصاصة
اخترقت عضلة الفخذ .
أعجب " خليل " بجرأتها وجمالها ، ومع أنّ الظرف لم يكن يسمح للحب إلا أنّ
الحب لا يأخذ الإذن في الدخول إلى القلب ، لقد أحس كأنّ تيارا رقيقا ينتشر
في جسمه . صار يزورها باستمرار في المستشفى ، لا ينقطع عنها سوى بضع ساعات
، يقضيها في اجتماع مع كوادر الحركة لتنظيم فعاليات ، أو للتخطيط لأنشطة ،
وكان موضع ترحيب من قبلها ، أحست أنّه كان حريصاً على سلامتها أثناء
الاشتباك مع جنود الاحتلال ، سمعت عنه كثيرا ، فكانت معجبة به وبجرأته ،
ومواقفه الوطنية قبل أن تراه . وفي إحدى زياراته عبَّر لها عن مشاعره
نحوها ، فعلم منها أنّها تبادله ذلك الشعور ، وأنّها توافق على الزواج منه
بعد أنْ أعلمها أنّه سيتقدم لخطبتها من أبيها .
استعادت عافيتها من الإصابة ، وعادت إلى بيتها وأسرتها ، فتقدم " خليل "
لخطبتها ، صعق من رفض والدها ، لم يتقبل المبرر الذي ساقه له ، فقد اعتبره
غير كفؤ لابنته ، فهو يعمل بائعا في محل تجاري يحصل على أجر شهري زهيد ،
فحالته المادية متوسطة ، وساق له مبررا آخر أنّه لا يريد أنْ يكون زوج
ابنته نزيل السجن ، أو أن تصبح في شبابها أرملة ، فأعماله وتهوره ستؤدي به
إلى السجن ، أو الاستشهاد ، كان الأب على عكس ابنته يضخم سلبيات
الانتفاضة ، ويرى أنّها قضت على والاستقرار والأمن ، فالحجر لن يحرر البشر
، ولا يمكنه الصمود أمام المدفع والرشاش والطائرة . وأصر الأب على موقفه
له رغم موافقة الفتاة على الاقتران به .
طرده أبوها عدة مرات من المنزل مع أناس محترمين لهم مركزهم الاجتماعي بعد
أن طلب منهم " خليل " أن يتدخلوا لإقناعه ، فكان عناد الأب واضحا جليا ، ،
ولكنّه لم ييأس ، فاستعان بمجموعته المسلحة لإرهابه بعد أنْ أخذ موافقة "
ندى " على ما سيقوم به ، يريد بث الرعب في نفس والدها ، ولكن لم تلن
قناته أمامهم . وجاء " خليل " الفرج عندما أشار عليه رجل من الحي اللجوء
إلى " أبو حاتم " فهو مفتاحه ، وطلبه لا يرد أبدا ، وكلمتع لا تصير اثنتين
عنده ، وما على " خليل " إلا أن يذهب إليه طالبا منه مساعدته في خطبتها .
لم يضع " خليل " النصيحة في سلة المهملات ، بل انطلق مسرعا في الذهاب إليه
، واستغرب " أبو حاتم " من مجيء هذا الشاب إلى بيته ، لم يره من قبل . سد
" أبو حاتم " بجسمه العريض مدخل الباب ، وعلامات استفهام ظهرت على وجهه ،
ولم يحد عن الباب إلا عندما سمع الشاب يقول له :
- أتسمح لي يا والدي بالدخول .
- تفضل يا بني .
دخل " خليل " غرفة صغيرة المساحة فيها اثاث متواضع اقتصر على مقاعد خشبية
تناثرت فيها مما يدل على رقة حال صاحبها ، وما أن جلس على واحد من هذه
المقاعد حتى أهتز تحته ، وكأنه يئن من جسده ، مع أن " خليل " كان متوسط
الطول نحيلا ، وأثناء ترحيب " أبو حاتم " تقدم " خليل " يعرف نفسه له ،
ويعلن له عن سبب زيارته ، يصارحه بمقدار حبه لابنة صديقه " أبو عزيز " ،
وأنّه يرغب بشدة العيش معها ، وبين له أنه لجأ إليه بناء على نصيحة أحد
الأشخاص .
أحس " أبو حاتم " بوله هذا الشـاب الماثل بين يديه ، وصمم أن يضغط على
صديقه بعد أن سمع إجابات " خليل " على الأسئلة التي وجهها إليه والني
انصبت على عمله وسنه وعائلته ، ووجد أنه يمثل غالبية شباب الوطن .
ذهب وحيدا إلى منزل صديقه " أبو عزيز " ، لم ينتظر طويلا بعد أن قرع جرس
الباب ، فتح صديقه " أبو عزيز " له الباب حالا ، وفي تلك اللحظة وقبل أن
يسمع كلمة ترحيب من صديقه " أبو عزيز " انطلق لسانه يهاجمه بحدة :
- ألا يعد تصرفك صادر عن شخص أحمق غبي ؟ لماذا ترفض
زواج ابنتك من الشاب " خليل " ؟ الكل يمدح أخلاقه ووطنيته .
رد " أبو عزيز " بعد قهقهة عالية يقول :
- وكيف علمت بالأمر ؟ ومن نقل إليك الخبر ؟
رسم " أبو حاتم " على وجهه علامات غضب شديد ، فقال له :
- هذا لا يعنيك . إلى متى تظل بهذه العقلية المتحجرة ؟ ألا ترى الظروف
الصعبة التي نمر فيها ؟ احمد ربك أنّه دخل من الباب لا الشباك ! وسمعت أنه
انتفخ صدرك ، وصرت تتكلم من رأس أنفك مع الأكابر الذين توسطوا له ،
وجاءوا يطلبون يد ابنتك ، ظنوا أنك ذو مقام كبير ، ولكنهم اكتشفوا أنك طبل
أجوف .
دعا " أبو عزيز " صديق عمره للجلوس على الأريكة ، يريد أن يخفف من غضبه ،
ويستقطبه ليقف إلى جانبـه ، يريد أن يؤلبه على " خليل " بذكر له ما قام به ،
فإحضار الملثمين يعد عملا شائنا يستنكره القاصي والداني فيقول له :
- لقد أحضر المسلحين من الشباب الملثمين الذين على شاكلته .
فرد عليه " أبو حاتم " بقوة وحزم :
- ليس البشر من صنف واحد ، فهم مختلفون في تصرفاتهم وعقولهم ، فمنهم من
يقدرك ويحترمك إن استخدمت أسلوب المنطق والعقل واللطف معه ، ومنهم من هو
على شاكلتك لا ينفع معه سوى أسلوب القوة والتهديد والوعيد ، وبسبب عنادك
أحضرهم .
- أشهروا أسلحتهم ، وهددوني بالقتل فورا إذا لم أوافق .
قرر " أبو حاتم " أن يتخذ أسلوب الهجوم ، وألا يتراجع عنه ، فهو يعرفه أشد
المعرفة ، فستتغير الأدوار إن أظهر اللين معه ، لذلك من الضروري أن يبقى
صلبا حتى تلين قناة محدثه فقال له :
- يا ليتهم أطلقوا النار عليك ، وأراحوني من صداقتك .
- يريدون موافقتي على " خليل " ، كانت مجموعة كبيرة ، انتشرت حول البيت ،
أفزعونا ، ظننا أنّهم من فرقة المستعربين التي كونها جيش الاحتلال لتصفية
شباب الانتفاضة المطاردين . ولكن أسلوب التهديد لم يفزعني ، هجمت عليهم
بالعصا فهربوا مني .
- أعرف أنك أحمق ، تهجم عليهم بالعصا ! لو كان في نيتهم الشر لجندلوك على
الأرض مقتولا ! استر على ابنتك يا رجـل ، لا تجبرني يا " أبو عزيز " على
أخـذك إلى المستشفى الذي يضعون فيه الحمقى والمجانين .
- أخاف أن يسجن أو يقتل ، وهو ليس كفؤا لها ، يعمل بالأجرة في محل تجاري ،
والبنت في الحقيقة تستحق طبيبا أو مهندسا .
- أين الطبيب والمهندس ؟ الزواج قسمة ونصيب ، والشاب يحبها وتحبه ،
والأعمار بيد الله ، وقدر الإنسان لا مفر منه ، لو عندي بنت وطلبها
لزوَّجْتُه إياها ، والكل عرف علاقتها به .
- أفهم من حديثك أن التردد ليس في مصلحة الفتاة .
- آخر كلام عندي سأحضره غدا معي لنقرأ الفاتحة .
- فليأت معكما وجهاء عائلته ، حينها نقرأ الفاتحة .
عدل " أبو حاتم " من جلسته ، وعاد إلى تمثيل دور الشخص المحتد فقال له :
- عدنا إلى الشكليات ، ألستُ وجيها ، أم أنني لستُ على قدر مقام حضرتك ؟
سيأتي الوجهاء عندما نكتب عقد الزواج .
- أمرك مطاع يا " أبو حاتم " .
كان " خليل " يشتعل حمية وجرأة كلما ازدادت الانتفاضة ضراوة ، ويعمل جاهدا
على إلهاب أوارها ، يكمن لدوريات الاحتلال ؛ ليقذفها بالحجارة وبالزجاجات
الحارقة .
من السهل الانتقال من حي إلى آخر من خلال القفز من سطح إلى آخر من سطوح
منازل البلدة القديمة دون مخاطرة ؛ لأنها متلاصقة ، وعلى هذه الأسطح بدأ "
خليل " يكدس الحجارة ، يستتر باللثام والليل ؛ لينفذ خطة رسمها مع
مجموعته لاستدراج إحدى الدوريات ، يقومون بقذفها بالحجارة ، ويتراجعون
أمامها تدريجيا حتى تدخل في زقاق ضيق ، يكون " خليل " كامنا فوق السطح
المطل عليه ليقوم بإسقاط حجر ضخم عليهم ، ونجحت الخطة واستدرجت الدورية
المترجلة ، واستطاع " خليل " إسقاط ثلاثة حجارة أدى أحدها إلى قتل ضابط
الدورية فورا ، وأصاب الثاني جنديا آخر مات من جرائه بعد عدة أيام .
فر " خليل " من المنطقة ، وجاءت قوة كبيرة من الجيش تطوقها ، وأعلنت منع
التجوال في البلدة القديمة ، وجمع الذكور في إحدى ساحات البلدة القديمة ،
يدققون في بطاقاتهم الشخصية ، وفي هذه اللحظات كانت مجموعات أخرى من جنود
الاحتلال تقتحم البيوت وفيها النساء والأطفال وكبار السن من الرجال ،
يبحثون عن الملثمين الذين أسقطوا الحجارة ، ورجال المخابرات يحققون مع
سكان المنزل الذي أسقطت من فوقه ، مارسوا معهم كل فنون التعذيب ، هددوا
النساء والفتيات بالاعتداء على شرفهن ، وأخيرا انتزعوا منهم أوصاف الشخص
الذي ألقى الحجر ، كان جارا لهم ، فهم يعرفونه حق المعرفة ولو أنه كان
يحتمي باللثام والليل .
أسفرت هذه الحملة قبل إطلاق سراح المحجوزين في الساحة عن اعتقال عدد من
الشباب كان من بينهم أحد المشاركين في استدراج الدورية ، لم يكن مطلوبا ،
ولم يعتقل سابقا ، وأخضع ومن معه لتعذيب شديد ، فلم يصمد طويلا ، فأرشد
المحققين إلى البيت الذي تختبئ فيه المجموعة في البلدة القديمة ، واشتبك
الجنود مع المحاصرين ، وأسفر الاشتباك عن قتل جندي واثنين من المحاصرين ،
وقبض على " خليل " بعد نفاد الذخيرة .
أوهم رجل المخابرات الذي كان يحقق مع " خليل " بصدور حكم إداري عليه مدته
ستة أشهر بعد أن عجز في انتزاع اعتراف منه ، وتم ترحيله إلى أحد السجون ،
فوجد أن شخصين يشاركانه زنزانة واحدة ، لم ينبس بأي كلمة ، لقد كان حذرا ،
فهو يخشـى أن يكون أحدهما أو كلاهما من " عصافير " المخابرات تم دسهما له
لانتزاع اعتراف منه ، فقد سمع عنهم الكثير ، ولديه خبرة سابقة فهو خريج
السجن حصل على الشهادة الثانوية وهو بين القضبان .
ومر أسبوعان لا يتكلم مع شريكيه في الغرفة ، أوهموه أنهم يرتابون فيه ،
فربما هو " عصفور " دسته المخابرات بينهم ، يتحدثان همسا خوفا من أن
يسمعهما ، فصار يتقرب إليهما ، فازدادا إمعانا في التباعد عنه ، حتى انفجر
غاضبا من شكهما فيه ، فطالباه بإقناعهما بوطنيته ، فحدثهما عن عملية قتله
للضابط والجندي عندما أسقطه على دورية الجنود المترجلين . اقتيد للتحقيق
ثانية ليسمع شريطا بصوته يعترف بما قام به ، ليقضي في السجن ثلاث مؤبدات ،
فحرقت العصافير له عش الزوجية الذي كان يبنيه بالآمال مع خطيبته " ندى "
التي لم يعد يرى بسمتها الرقيقة في أحلامه
.*.*.*.*.*.*.*.